الحمد لله تم القبض على أدمن «عبيلو واديلو»، وتطهر المجتمع المصرى المتدين بالفطرة، وتخلص الثوب المصرى الناصع من دنس الغش والخداع!! لكن قبل أن أخوض فى الموضوع أشرح معنى «عبيلو واديلو» لأمثالى من الدقة القديمة الرذلة الذين ولدوا فى زمن عجيب غريب ليس على الموضة ولا المقاس الآن. كان يعتبر الغش جريمة وجُرسة لا شطارة ومصدراً للفخر، هذه عبارة على تويتر، وهو وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعى ينشر تحتها كل تسريبات الثانوية العامة والإجابات النموذجية، لكى يصبح الغشاش هو المتفوق وليذهب المذاكر المؤدب الأمين الذى يحمل فى ضميره كل عملات الزمن الغابر الممنوعة من الصرف الآن- إلى جهنم!! ولكن هل بالقبض على أدمن «عبيلو واديلو» نكون قد أدينا الواجب، وصارت وزارة التربية والتعليم تربية وتعليما بجد؟ هل عندما نضع هذا الشخص بين جدران السجن نكون قد بنينا حصناً وجداراً أخلاقياً لا يستطيع الغش وقول الزور والسرقة والزيف أن تقفز عليه وتتسرب إلى ضميرنا المثقوب المخوخ؟! الإجابة ستعرفها من مانشيتات أخرى مثل «غش جماعى فى مادة القرآن».. «تسريب امتحان الحديث».. «غش فى العقيدة»... إلخ!! الطلبة الأزهريون المنوط بهم حفظ كتاب الله والدعوة للأخلاق وصناعة ضمير جمعى يخشى الله، ويحارب الغش والتدليس، هم أنفسهم يشاركون فى الغش الجماعى والتسريب الإلكترونى!! وبعد كده تيجى تكلمنى عن تربية وتعليم وأخلاق وضمير ومجتمع يريد النهوض والتقدم، بينما السوس ينخر فى نخاع ضميره!! الغش صار القاعدة والجهد والصدق، والالتزام صار الاستثناء، أكثر الهاشتاجات شهرة هذه الأيام بالإضافة إلى عبيلو واديلو، هو «غشاشون ونفتخر»! عالم غريب وبحر هائج هادر الأمواج أجبرت على الدخول إليه، واضطررت إلى السباحة فيه مجبراً، عندما كان ابنى فى الثانوية العامة فى العام الماضى واشتكى لى مندهشاً أن الكثير من جيله يرى أن الغش فى الامتحان حق واجب وفرض عين، حاولت وقتها كأب وكمواطن أن أفهم ظاهرة استحلال الغش التى صارت وباءً مصرياً مزمناً وسرطاناً متغلغلاً عضالاً، دخلت على تويتر، وشاهدت المهازل والمساخر والكوميديا السوداء، شاهدت انهيار أساس المبنى والنسق الأخلاقى. كود الأخلاق بالفعل صار عدماً وفراغاً وشبحاً، عندما تقرأ: «غشاشون ونفتخر»، أو «غشاشون فدائيون» أو حنغش برضه أو عبيلو واديلو، إلى آخر هذه الهاشتاجات التى تفخر بالغش وتعاند من أجل خيانة الضمير وتسعى إلى النجاح المزيف والربح السهل والفوز الذى بطعم الهزيمة والسرقة الحلال أو التى يحاولون إسباغ صفة الحلال عليها. هل صار الغش مدعاة للفخر؟ هل أصبح الغش لا يخجل منه ولا يجرس صاحبه، بل هو ولد جدع وراجل؟ نعرف أن التعليم صار خارج الزمن، ونعرف أنه بيزنس دروس خصوصية وتلقين ببغاوات وقتل إبداع واغتيال مهارة وتشويه شخصية وتدمير نفسية، نعرف أنه لا صلاح للمجتمع ولا طوق نجاة للوطن ولا استقرار على شاطئ الأمان إلا بإصلاح التعليم، لكن أن نفقد أيضاً مع كل ذلك قيمة أن الغش عيب وحرام وجريمة وجرسة، ونتقدم خطوة لنفتخر به ونتفاخر ونتطاوس ونزهو بعيالنا الغشاشين الجدعان، تخيل مجتمعاً يقول فيه الأب على باب اللجنة لابنه وهو خارج من الامتحان، معنفاً إياه: «إزاى ما عرفتش تغش من اللى جنبك يا حمار ياخيبة؟!».. هل هذا المجتمع فيه أمل؟ أمّ تقول لابنتها وهى تشتم المراقب وتدعو عليه، لأنه أدى مهمته ومنع الغش فى اللجنة «إلهى يتشل ويشوفها فى عياله قادر يا كريم المراقب الظالم اللى مرضيش يغششك»!! أو طالب يقول لأمه مادحاً المراقب «ده راجل زى العسل سابنا كلنا نغش وقال اللى معاه برشام يطلعه ويغشش زمايله»!! أين نحن؟ هل نحن فعلاً فى مصر التى كان الغشاش فيها يفضح ويعامل كالجمل الأجرب؟ إنها ليست قاعدة مصرية فقط، بل قاعدة إنسانية أن تدين وتجرم وتجرس الغش والكذب والتدليس، ولكن مصر انسلخت عن الدنيا، وصار الغش فيها مؤسسة، بل صار أكبر مؤسسة وأضخم حزب. الكل يتسابق فى الفخار والزهو بأنه أول من سرب ورقة الامتحان على النت! لا تحدثنى عن العدل أو تساوى الفرص، فالموبايل يجعل الغشاش من الأوائل بمجرد ضغطة زر عليه سيقرأ إجابة السؤال بالتفصيل، ويعرف الحل، وهو لم يفتح صفحة واحدة فى كتاب المادة، كانت امتحانات الثانوية ومكتب التنسيق آخر حصن للعدالة وتساوى الفرص، وكلنا يتذكر أن ابنة عبدالناصر لم تستطع- وهى بنت الرئيس- أن تتجاوز مكتب التنسيق أو تمر من الأبواب الخلفية وتتحايل على نظامه، صار هذا الكلام من النوادر وجلسات النميمة، الغش الآن هو الحل، الغش تفاخر به الأمم، غشاشون ونفتخر، هى دى نهايتها، فدائيون ليس من أجل قضية، بل من أجل الغش.. يا خسارة!.